فصل: من فوائد أبي السعود في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد البيضاوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ} لما أنبأهم بأسمائهم وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له، اعترافًا بفضله، وأداء لحقه واعتذارًا عما قالوا فيه، وقيل: أمرهم به قبل أن يسوي خلقه لقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين} امتحانًا لهم وإظهارًا لفضله. والعاطف عطف الظرف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر، وإلا عطفه بما يقدر عاملًا فيه على الجملة المتقدمة، بل القصة بأسرها على القصة الأخرى، وهي نعمة رابعة عدها عليهم. والسجود في الأصل تذلل مع تطامن قال الشاعر:
تَرَى الأَكمَ فيها سُجَّدًا للحَوافِر

وقال آخر:
وَقُلْنَ لَه اسْجُدْ لِلَيلى فَاسْجَدَا

يعني البعير إذا طأطأ رأسه. وفي الشرع: وضع الجبهة على قصد العبادة، والمأمور به إما المعنى الشرعي فالمسجود له بالحقيقة هو الله تعالى، وجعل آدم قبلة لسجودهم تفخيمًا لشأنه، أو سببًا لوجوبه فكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون نموذجًا للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها، ونسخة لما في العالم الروحاني والجسماني وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدر لهم من الكمالات، ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب والدرجات، أمرهم بالسجود تذللًا لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته، وشكرًا لما أنعم عليهم بواسطته، فاللام فيه كاللام في قول حسان رضي الله تعالى عنه:
أَليْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لقبلتِكُمْ ** وأَعْرَفَ الناسِ بالقرآنِ والسُّنَنِ

أو في قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} وأما المعنى اللغوي وهو التواضع لآدم تحية وتعظيمًا له، كسجود إخوة يوسف له، أو التذلل والإنقياد بالسعي في تحصيل ما ينوط به معاشهم ويتم به كمالهم. والكلام في أن المأمورين بالسجود، الملائكة كلهم، أو طائفة منهم ما سبق.
{فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر} امتنع عما أمر به، استكبارًا من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه، أو يعظمه ويتلقاه بالتحية، أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه. والإباء: امتناع باختيار. والتكبر: أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره. والاستكبار طلب ذلك بالتشبع.
{وَكَانَ مِنَ الكافرين} أي في علم الله تعالى، أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقادًا بأنه أفضل منه، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسل به كما أشعر به قوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} جوابًا لقوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} لا بترك الواجب وحده. والآية تدل على أن آدم عليه السلام أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له، ولو من وجه، وأن إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولا يصح استثناؤه منهم، ولا يرد على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن} لجواز أن يقال إنه كان من الجن فعلًا ومن الملائكة نوعًا، ولأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روي: أن من الملائكة ضربًا يتوالدون يقال لهم الجن ومنهم إبليس.
ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول: إنه كان جنيًا نشأ بين أظهر الملائكة، وكان مغمورًا بالألوف منهم فغلبوا عليه، أو الجن أيضًا كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم، فإنه إذا علم أن الأكابر مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به، علم أن الأصاغر أيضًا مأمورون به. والضمير في فسجدوا راجع إلى القبيلين كأنه، قال فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس، وأن من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة، كما أن من الإنس معصومين والغالب فيهم عدم العصمة، ولعل ضربًا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات، وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات كالبررة والفسقة من الإنس والجن يشملهما. وكان إبليس من هذا الصنف كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلذلك صح عليه التغير عن حاله والهبوط من محله، كما أشار إليه بقوله عز وعلا: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} لا يقال: كيف يصح ذلك والملائكة خلقت من نور والجن من نار؟ لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه عليه الصلاة والسلام قال: «خلقت الملائكة من النور، وخلق الجن من مارج من نار» لأنه كالتمثيل لما ذكرنا فإن المراد بالنور الجوهر المضيء والنار كذلك، غير أن ضوءها مكدر مغمور بالدخان محذور عنه بسبب ما يصحبه من فرط الحرارة والإحراق، فإذا صارت مهذبة مصفاة كانت محض نور، ومتى نكصت عادت الحالة الأولى جذعة ولا تزال تتزايد حتى ينطفئ نورها ويبقى الدخان الصرف، وهذا أشبه بالصواب وأوفق للجمع بين النصوص، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.
من فوائد الآية:
استقباح الاستكبار وأنه قد يفضي بصاحبه إلى الكفر، والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض في سره، وأن الأمر للوجوب، وأن الذي علم الله تعالى من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة، إذ العبرة بالخواتم وإن كان بحكم الحال مؤمنًا وهو الموافاة المنسوبة إلى شيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى. اهـ.

.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَإِذْ قُلْنَا للملائكة} عطفٌ على الظرف الأول منصوبٌ بما نصبه من المُضمَر، أو بناصب مستقلٍ معطوفٍ على ناصبه عطفَ القصة على القصة، أي واذكر وقت قولنا لهم، وقيل: بفعل دل عليه الكلام، أي أطاعوا وقت قولِنا الخ، وقد عرفت ما في أمثاله، وتخصيصُ هذا القول بالذكر مع كون مقتضى الظاهرِ إيرادَه على منهاج ما قبله من الأقوال المحكيةِ المتصلةِ به للإيذان بأن ما في حيّزه نعمةٌ جليلةٌ مستقلة حقيقةٌ بالذكر والتذكيرِ على حِيالها، والالتفاتُ إلى التكلم لإظهار الجلالةِ وتربيةِ المهابة مع ما فيه من تأكيد الاستقلال، وكذا إظهارُ الملائكة في موضع الإضمار، والكلام في اللام وتقديمِها مع مجرورها على المفعول كما مر، وقرئ بضم تاء الملائكة إتباعًا لضم الجيم في قوله تعالى: {اسجدوا لآدَمَ} كما قرئ بكسر الدال في قوله تعالى: {الحمد للَّهِ} إتباعًا لكسر اللام وهي لغة ضعيفة، والسجودُ في اللغة الخضوعُ والتطامُن، وفي الشرع وضعُ الجبهة على الأرض على قصد العبادة، فقيل: أُمِروا بالسجود له عليه والسلام على وجه التحية تعظيمًا له واعترافًا بفضله وأداءً لحق التعليم واعتذارًا عما وقع منهم في شأنه، وقيل: أمروا بالسجود له تعالى وإنما كان آدمُ قِبلةً لسجودهم تفخيمًا لشأنه أو سببًا لوجوبه، فكأنه تعالى لما بَرَأه أُنموذَجًا للمُبدَعات كلِّها ونسخةً منطويةً على تعلق العالم الروحاني بالعالم الجُسماني وامتزاجِهما على نمط بديعٍ أمرهم بالسجود له تعالى لما عاينوا من عظيم قدرتِه، فاللام فيه كما في قول حسانَ رضي الله عنه:
أليس أولَ من صلَّى لقِبلتكم ** وأعرفَ الناسِ بالقرآنِ والسننِ

أو في قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} والأولُ هو الأظهر، وقوله عز وجل: {فَسَجَدُواْ} عطف على قلنا، والفاء لإفادة مسارعتِهم إلى الامتثال وعدمِ تلعثُمِهم في ذلك، رُوي عن وهْب أن أولَ من سجد جبريلُ ثم ميكائيلُ ثم إسرافيلُ ثم عزرائيلُ ثم سائرُ الملائكة عليهم السلام وقوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ} استثناءٌ متصل لما أنه كان جنّيًا مفرَدًا مغمورًا بألوف من الملائكة متصفًا بصفاتهم فغَلبوا عليه في فسجدوا، ثم استثني استثناءَ واحدٍ منهم أو لأن من الملائكة جنسًا يتوالدون يقال لهم الجنُّ كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو منهم، أو لأن الجن أيضًا كانوا مأمورين بالسجود له لكن استُغني بذكر الملائكة عن ذكرهم. أو منقطعٌ: وهواسمٌ أعجميٌ ولذلك لم ينصرِف ومن جعله مشتقًا من الإبلاس وهو إلباس قال: إنه مُشبَّهٌ بالعجمة حيث لم يُسمَّ به أحدٌ فكان كالاسم الأعجميّ.
واعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية الكريمةُ والتي في سورة الأعراف من قوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ} الآية، والتي في سورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه من قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ فَسَجَدُواْ} الآية، أن سجودَ الملائكة إنما ترتب على الأمر التنجيزيّ الوارد بعد خلقِه وتسويته ونفخِ الروحِ فيه ألبتة كما يلوح به حكايةُ امتثالِهم بعبارة السجود دون الوقوعِ الذي به ورد الأمرُ التعليقي، ولكن ما في سورة الحِجْرِ من قوله عز وعلا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَرًا مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} وما في سورة ص من قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَرًا مّن طِينٍ} إلى آخر الآية يستدعيان بظاهرهما ترتُّبَه على ما فيهما من الأمر التعليقيِّ من غير أن يتوسط بينهما شيءٌ ما تُفصحَ عنه الفاءُ الفصيحة من الخلق والتسوية ونفخِ الروحِ فيه عليه السلام.
وقد رُوي عن وهْبٍ أنه كان السجود كما نفخ فيه الروح بلا تأخير، وتأويلُ الآيات السابقةِ بحمل ما فيها من الأمر على حكاية الأمرِ التعليقيّ بعد تحققِ المعلَّقِ به إجمالًا، فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز يأباه ما في سورة الأعراف من كلمة ثم المناديةِ بتأخر ورودِ الأمرِ عن التصوير المتأخرِ عن الخلق المتأخر عن الأمر التعليقي، والاعتذارُ بحمل التراخي على الرُتبيّ أو التراخي في الإخبار، أو بأن الأمرَ التعليقي قبل تحققِ المعلَّق به لمّا كان في عدم إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جُعل كأنه إنما حدَث بعد تحققه فحُكي على صورة التنجيزِ يؤدي بعد اللتيا والتي إلى أن ما جرى بينه وبينهم عليهم السلام في شأن الخلافة وما قالوا فيه وما سمعوا إنما جرى بعد السجود المسبوقِ بمعرفة جلالة منزلتِه عليه السلام وخروجِ إبليسَ من البَيْن باللعن المؤبد لعِناده، وبعد مشاهدتهم لذلك كله عيانًا وهل هو إلا خرقٌ لقضية العقل والنقل، والالتجاءُ في التقصّي عنه إلى تأويل نفخِ الروحِ بحمله على ما يعُمُّ إفاضةَ ما به حياةُ النفوس التي من جملتها تعليمُ الأسماء تعسّفٌ يُنبئ عن ضيق المجال.
فالذي يقتضيه التحقيقُ ويستدعيه النظمُ الأنيقُ بعد التصفح في مستودعات الكتاب المكنونِ والتفحصِ عما فيه من السر المخزون أن سجودَهم له عليه السلام إنما ترتب على الأمر التنجيزيّ المتفرعِ على ظهور فضلِه عليه السلام المبني على المحاورة المسبوقةِ بالإخبار بخلافته المنتظمِ جميعَ ذلك في سلك ما نيط به الأمرُ التعليقيُّ من التسوية ونفخِ الروحِ، إذ ليس من قضيته وجوبُ السجود عقيبَ نفخِ الروحِ فيه، فإن الفاءَ الجزائيةَ ليست بنصَ في وجوب وقوعِ مضمونِ الجزاء عقيبَ وجودِ الشرط من غير تراخٍ، للقطع بعدم وجوبِ السعي عقيبَ النداء، لقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن} الآية، وبعدم وجوب إقامةِ الصلاة غِبَّ الاطمئنانِ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فاذكروا}.
بل إنما الوجوبُ عند دخول الوقت. كيف لا والحكمة الداعية إلى ورود ما نحن فيه من الأمر التعليقيِّ إثرَ ذي أثيرٍ إنما هي حملُ الملائكةِ عليهم السلام على التأمُّل في شأنه عليه السلام ليتدبروا في أحواله طرًا، ويُحيطوا بما لديه خُبرًا، ويستفهموا ما عسى يستَبْهم عليهم في أمره عليه السلام لابتنائه على حِكَم أبيّة، وأسرارٍ خفية طُويت عن علومهم، ويقفوا على جلية الحال قبل ورود الأمر التنجيزي وتحتُّمِ الامتثال وقد قالوا بحسب ذلك ما قالوا وعاينوا ما عاينوا وعدمُ نظمِ الأمر التنجيزيّ في سلك الأمور المذكورةِ في السورتين عند الحكاية لا يستلزمُ عدمَ انتظامِه فيه عند وقوعِ المحكيِّ كما أن عدمَ ذكر الأمر التعليقي عند حكايةِ الأمرِ التنجيزيِّ في السورة الكريمة المذكورة لا يوجب عدمَ مسبوقيتِه به، فإن حكاية كلامٍ واحدٍ على أساليبَ مختلفةٍ حسبما يقتضيه المقامُ ويستدعيه حسنُ الانتظامِ ليست بعزيزة في الكتاب العزيز، وناهيك بما نقل في توجيه قولِه تعالى: {بَشَرًا} مع عدم سبقِ معرفةِ الملائكةِ عليهم السلام بذلك وحيث صِيَر إليه مع أنه لم يرِدُ به نقلٌ فما ظنك بما قد وقع التصريحُ به في مواضعَ عديدةٍ فلعله قد أُلقي إليهم ابتداءً جميعُ ما يتوقف عليه الأمرُ التنجيزيُّ إجمالًا بأن قيل مثلًا إني خالقٌ بشرًا من كذا وكذا وجاعل إياه خليفةً في الأرض فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي وتبين لكم شأنُه فقعوا له ساجدين، فخلقه فسواه ونفخ فيه الروح، فقالوا عند ذلك ما قالوا أو ألقي إليهم خبرُ الخلافة بعد تحقق الشرائطِ المعدودة بأن قيل إثرَ نفخِ الروح فيه إني جاعلٌ هذا خليفة في الأرض فهناك ذكروا في حقه عليه السلام ما ذكروا، فأيده الله عز وجل بتعليم الأسماءِ فشاهدوا منه ما شاهدوا، فعند ذلك ورد الأمرُ التنجيزيّ اعتناءً بشأن المأمور به وتعيينًا لوقته، وقد حُكي بعضُ الأمور في بعض المواطنِ وبعضُها في بعضِها اكتفاءً بما ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في موطن آخرَ.
والذي يحسم مادةَ الاشتباهِ أن ما في سورة ص من قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} الخ، بدل من قوله تعالى: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} فيما قبله من قوله تعالى: {مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي بكلامهم عند اختصامِهم والمرادُ بالملأ الأعلى الملائكةُ وآدمُ عليهم السلام وإبليسُ حسبما أطبق عليه جمهورُ الأمة، وباختصامهم ما جرى بينهم في شأن خلافةِ آدمَ عليه السلام من التقاوي الذي من جملته ما صدر عنه عليه السلام من الإنباء بالأسماء ومن قضية البدلية وقوعُ الاختصامِ المذكورِ في تضاعيف ما ذكر فيه تفصيلًا من الأمر التعليقيّ، وما عُلِّق به من الخلق والتسويةِ ونفخِ الروحِ فيه وما ترتب عليه من سجود الملائكةِ عليهم السلام وعنادِ إبليسَ وما تبِعه من لعنه وإخراجِه من بَيْن الملائكة، وما جرى بعده من الأفعال والأقوال، وإذ ليس تمامُ الاختصامِ بعد سجودِ الملائكة ومكابرةِ إبليسَ المستتبعةِ لطرده من بينهم لما عرفتَ من أنه أحدُ المختصِمين كما أنه ليس قبل الخلق ضرورةَ استحالةِ الإنباءِ بالأسماء حينئذ، فهو إذن بعد نفخِ الروحِ وقبل السجود حتمًا بأحد الطريقين والله سبحانه أعلمُ بحقيقة الأمر.
{أبى واستكبر} استئنافٌ مبين لكيفية عدمِ السجود المفهوم من الاستثناء وأنه لم يكن للتردد أو للتأمل والإباءُ الامتناعُ بالاختيار، والتكبرُ أن يرى نفسه أكبرَ من غيره، والاستكبارُ طلب ذلك بالتشبّع، أي امتنع عما أُمر به واستكبر من أن يعظِّمه أو يتخذه وصلةً في عبادة ربِّه، وتقديمُ الإباءِ على الاستكبار مع كونه مسبِّبًا عنه لظهوره ووضوحِ أثرِه واقتُصر في سورة ص على ذكر الاستكبار اكتفاءً به، وفي سورة الحجر على ذكر الإباءِ حيث قيل أبى أن يكون مع الساجدين {وَكَانَ مِنَ الكافرين} أي في علم الله تعالى، إذ كان أصلُه من كفرة الجنِّ فلذلك ارتكب ما ارتكبه على ما أفصح عنه قولُه تعالى: {كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} فالجملةُ اعتراضيةٌ مقرِّرةٌ لما سبق من الإباء والاستكبار، أو صار منهم باستقباح أمرِه تعالى إياه بالسجود لآدمَ عليه السلام زعمًا منه أنه أفضلُ منه، والأفضلُ لا يُحسِنُ أن يؤمَرَ بالخضوع للمفضول كما يفصح عنه قوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} حين قيل له: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} لا بترك الواجب وحده، فالجملةُ معطوفة على ما قبلها، وإيثارُ الواو على الفاء للدلالة على أن محضَ الإباءِ والاستكبارِ كفرٌ لا لأنهما سببان له كما تفيده الفاء. اهـ.